الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
ففي مفاهيمنا الإسلامية الأصيلة كلمتان مشتقتان من مادة واحدة، لهما أكبر الأثر في الحياة الإسلامية، وفي مسيرة الأمة الإسلامية على امتداد التاريخ.
هاتان الكلمتان هما الاجتهاد والجهاد،
وقد اشتقتا من مادة (ج هـ د) بمعنى بذل الجهد (بضم الجيم) أي الطاقة،
أو تحمل الجهد (بفتح الجيم) أي المشقة.
والكلمة الأولى هدفها معرفة الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسوله والأخرى هدفها حمايته والدفاع عنه.
الأولى ميدانها الفكر والنظر، والأخرى ميدانها العمل والسلوك.
وعند التأمل نجد أن كلا المفهومين يكمل الآخر ويخدمه، فالاجتهاد إنما هو لون من الجهاد العلمي، والجهاد إنما هو نوع من الاجتهاد العملي.
وثمرات الاجتهاد يمكن أن تضيع إذا لم تجد من أهل القوة من يتبنى تنفيذها كما أن مكاسب الجهاد يمكن أن تضيع إذا لم تجد من أهل العلم من يضيء لها الطريق وفي عصورنا الإسلامية الزاهرة مضى هذان الأمران جنبا إلى جنب: الاجتهاد والجهاد، فسعدت الأمة بوفرة المجتهدين من حملة القلم، ووفرة المجاهدين من حملة السيف، الأولون لفهم ما أنزل الله من الكتاب والميزان، والآخرون لحمايته بالحديد ذي البأس الشديد، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب).
وفي بعض العصور وجد الجهاد لكن لم يصحبه الاجتهاد، فجمدت الحياة الإسلامية وتحجرت، على حين كانت المجتمعات غير المسلمة قد بدأت في اليقظة والتفتح والنهوض.
ثم تلت عصور أخرى فقد المسلمون فيها الاجتهاد والجهاد معا، فغزوا في عقر دارهم، وفقدوا سيادتهم واستقلالهم ووحدتهم.
ثم نادى منادي الجهاد لتحرير الأرض، وحصل المسلمون على استقلالهم، ولكنه كان استقلالا ناقصا قاصرا، إذ الاستقلال الحقيقي أن يتحرروا من آثار الاستعمار التشريعي والثقافي والاجتماعي، إلى جوار التحرر من الاستعمار العسكري والسياسي ويعودوا إلى ذاتيتهم الأصيلة، وهذا لا يكون إلا إذا كانت شريعة الإسلام أساس حياتهم كلها: الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، التشريعية والتربوية، الفكرية والعملية.
الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع التي تحمل الهداية الإلهية للبشر وقد خصها الله بالعموم والخلود والشمول، فهي رحمة الله للعالمين، من كل الأجناس، وفي كل البيئات، وكل الأعصار، إلى أن تقوم الساعة، وفي كل مجالات الحياة المتنوعة، لهذا أودع الله فيها من الأصول والأحكام ما يجعلها قادرة على الوفاء بحاجات الإنسانية المتجددة على امتداد الزمان، واتساع المكان، وتطور الإنسان.
وإنما كانت كذلك بما جعل الله فيها من عوامل السعة والمرونة، وما شرع لعلمائها من حق الاجتهاد فيما ليس فيه دليل قطعي من الأحكام، أما ما كان فيه دليل ظني في ثبوته أو دلالته أو فيهما معا، أو ما ليس فيه نص ولا دليل، فهو المجال الرحب للاجتهاد، وبهذا تتسع الشريعة لمواجهة كل مستحدث، وتملك القدرة على توجيه كل تطور إلى ما هو أقوم، ومعالجة كل داء جديد بدواء من صيدلية الإسلام نفسه، لا بالتسول من الغرب أو الشرق.
إن "الاجتهاد" هو الذي يعطي الشريعة خصوبتها وثراءها، ويمكنها من قيادة زمام الحياة إلى ما يحب الله ويرضى، دون تفريط في حدود الله، ولا تضييع لحقوق الإنسان، وذلك إذا كان اجتهادا صحيحا مستوفيا لشروطه صادرا من أهله في محله.
مجالان جديدان للاجتهاد
وأذكر هنا مجالين من المجالات التي حدث فيها تغير ضخم، قلب ما كان مألوفا ومقررا من قبل ظهرا على عقب، وأصبحنا في أشد الحاجة إلى الاجتهاد.
المجال الأول: المجال الاقتصادي والمالي.
فلاشك أن عصرنا هذا قد حفل بأشكال وأعمال ومؤسسات جديدة في ميدان الاقتصاد والمال لم يكن أسلافنا ـ بل لأقرب العصور إلينا ـ عهد بها وذلك كالشركات الحديثة بصورها المتعددة كشركات المساهمة والتوصية وغيرها، وفي مجالاتها المختلفة كالتأمين بأنواعه المتعددة: تأمين على الحياة وتأمين على الممتلكات..الخ.
والبنوك بأنواعها المختلفة من عقاري وصناعي وزراعي وتجاري واستثماري..الخ وأعمالها الكثيرة: من حساب جار، وودائع وقروض وتحويل وصرف، وفتح اعتمادات وإصدار خطابات ضمان، و (خصم كمبيالات) وغير ذلك مما قد يحل أو يحرم من معاملات البنوك.
وإن كثير من هذه المعاملات جديد مائة في المائة، وبعضها شبيه بمعاملات قديمة، أو قريب منها، وبعضها مركب من قديم وجديد.
ترى ما الحكم في هذه المعاملات والمؤسسات؟ ربما يسارع بعض أهل العلم إلى أسهل الطرق وهو الرفض والتحريم والتشديد، وفي هذا ما فيه من تعسير على المسلمين وتنفير من الدين. وقد قال الإمام سفيان الثوري بحق: إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد!
وقد يحاول آخرون فتح الباب على مصراعيه لكل جديد، وكل ما هو واقع مباح بدعوى المصلحة حينا، وبدعوى الضرورة حينا، وبتخريجات واهية متكلفة حينا آخر.
وفئة ثالثة تحرص على أن تبحث لكل معاملة جديدة عن نظير قديم تضمنته الكتب والمصنفات، لتخرج على وقفه، وتكيف على أساسه، وإلا فهي معاملة مرفوضة.
وأولى من هذا كله أن تخضع هذه الأعمال والمؤسسات الجديدة للبحث الجاد والدراسة المتأنية، وأن يستفرغ أهل الفقه وسعهم لاستنباط الحكم اللائق بها في ضوء الأدلة الشرعية، سواء كان الحكم بالإباحة أو التحريم، فهذا مجال الاجتهاد، وهنا عمل المجتهد حقا.
ومثل ذلك (النقود الورقية) التي أصبحت عماد التعامل في هذا العصر، ما حكمها؟ ألها حكم النقود المعدنية، التي جاءت بها النصوص الشرعية من الذهب والفضة، في كل شيء: في وجوب الزكاة وحرمة الربا، وقضاء الديون، وغيرها؟
أم النقود الشرعية هي الذهب والفضة فقط، وما عدا ذلك فليس بنقد كما يذهب إليه بعض ظاهرية عصرنا، وبهذا لا يوجبون فيها الزكاة، ولا يجري فيها الربا؟؟
أم لها حكم الذهب والفضة في وجوب الزكاة فقط؟ أم فيه وفي الربا؟ وليس في قضاء الديون؟
وما الحكم في العملات التي تدهورت قيمتها أو تتدهور باستمرار إلى حد مذهل؟ وما حكم من كان عليه دين قديم من هذه العملات ويريد أن يوفيه اليوم بعد هبوط القدرة الشرائية هبوطا غير عادي؟ كما في الليرة التركية مثلا؟
وما الحكم في الذهب اليوم؟ ألا زال نقدا وعملة ومعيارا وثمنا للأشياء كما كان في الماضي؟ يقوم به غيره، ولا يقوم هو بغيره؟ وهل له قوة الإبراء كما كان؟ أم أصبح هو سلعة تباع وتشترى، وترتفع وتنخفض، وتقوم بغيرها من الأشياء؟
وهل الذهب المصنوع المشغول كذهب السبائك ونحوها في الحكم؟ أم لكل منها حكمه الخاص؟ الخ من هذه الأسئلة المتشعبة.
وكم عقدت في عصرنا حلقات وندوات، وأقيمت مؤتمرات، ونظمت أسابيع، لدراسة بعض الموضوعات المالية والاقتصادية، مثل: التأمين أو البنوك أو الزكاة في الأموال المعاصرة؟ واتفقت في بعض الأمور، واختلفت في بعضها الآخر، وحسمت القول في بعض القضايا، وظلت قضايا كثيرة مرجأة للبحث، تنتظر رأي المجتهد فردا كان أو جماعة.
موضوع كالتأمين نوقش في أسبوع الفقه الإسلامي بدمشق، وفي مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وفي ندوة التشريع الإسلامي في ليبيا، وفي المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة.. وفي غيرها من المؤتمرات والندوات.
وألف فيه عدد من الأساتذة الأفاضل، أذكر منهم: الأستاذ مصطفى الزرقا، والشيخ على الخفيف رحمه الله، والشيخ عبدالله بن زيد المحمود، والدكتور حسين حامد حسان، والدكتور محمد الدسوقي..وغيرهم.
وكتبت فيه عدا ذلك مقالات وبحوث متنوعة، ولم ينته الرأي فيه بعد.
فهذا هو المجال الأول للاجتهاد في عصرنا: مجال المعاملات المالية المعاصرة.
المجال الثاني: مجال الطب الحديث
فمما لا ريب فيه أن العلم الحديث بما قدمه من اكتشافات هائلة وتكنولوجيا متقدمة، وما وضع في يد الإنسان من إمكانات تشبه الخوارق في العصور الماضية وخصوصا في المجال الطبي، قد أثار مشكلات كثيرة تبحث عن حل شرعي وتساؤلات شتى تتطلب الجواب من الفقه الإسلامي وتقتضي من المجتهد المعاصر أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه في استنباط الحكم المناسب لها.
وعندي من هذا النوع أسئلة كثيرة منها مجموعة صيغت من قبل منظمة الطب الإسلامي في جنوب إفريقيا، وقد أرسلها إلي أيضا قسم الطب الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وتشمل حوالي سبعة عشر موضوعا.
وأنا أذكر منها هنا موضوعا واحدا مهما، لنرى مقدار حاجتنا إلى الاجتهاد، لنجيب عن هذه الأسئلة وأمثالها وما أكثرها، وهو ما يتعلق بزرع الأعضاء.
زرع الأعضاء وحاجتنا إلى الاجتهاد فيه
تعتبر زراعة الأعضاء من الحقول التي يتطور فيها الطب سريعا، وهذا يتضمن زراعة العضو كله أو أجزاء منه، أو زراعة أنسجة من الحيوانات، أو مخلوقات أخرى ومن ثم زرعها في جسم المريض.
وفيما يتعلق بالحيوانات، فقد انتزعت صمامات القلب من الخنازير والعجول، والجلد والكبد من الخنازير كذلك.
أما فيما يتعلق بالبشر، فإن الأحياء منهم يمكن أن يعطوا بعض الأعضاء مثل كلية واحدة، أو الجلد أو الدم دون أن يؤذوا أنفسهم ويمكن نزع بعض الأعضاء من الأموات مثل القرنية، الجلد، القلب، الكليتين، العظام، صمامات القلب والقرنيات.
ويمكن أن يكون الغرض من زرع الأعضاء هو إنقاذ حياة، أو تحسين نوعية الحياة، مثل شفاء أنسجة العظام الصلبة، أو تمكين الإنسان من النظر، أو أن يتمكن من الأكل والشرب بشكل أفضل بواسطة زرع الكلية.
وهنا تثور الأسئلة التالية
1- هل يجوز زرع أعضاء الحيوان أو أجزاء منها في الإنسان لإنقاذ الحياة أو تحسين نوعيتها، حتى ولو كان الحيوان خنزيرا، أو جلد خنزير أو كبد خنزير، أو صمامات قلب خنزير؟
2- هل يجوز للمسلم الموافقة على نزع أعضاء من جسمه وهو حي لاستعمالها في الزراعة لمصلحة طفلة أو أحد أبويه أو إخوته؟
3- هل يجوز للمسلم أن يوافق على نزع أعضاء من جسمه بعد موته لتستعمل في الزراعة ليستفيد منها أي إنسان؟
4- هل يجوز للمسلمين أن يتبرعوا بأجسامهم بعد الموت لاستعمالها في التشريح لتعليم الآخرين وبهذا يفيدون الإنسانية؟
5- متى يجوز الإعلان عن وفاة الإنسان؟ فهذا سؤال مهم في الطب لأنه في حالة الأعضاء مثل القلب والكلية فإنه يمكن أن يكونا نافعين في حالة استقبالهما كمية كافية من الدم (ارتواء) ولهذا السبب فإن مفهوم (موت الدماغ) قد تطور ويستطيع الطبيب بواسطته أن يحكم فيما إذا كان المريض قد أصيب بجرح حاد في بعض الأجزاء الحيوية من دماغه، أي إذا توقفت الآلة التي تحافظ على حياته، فإن المريض سيموت حتما، والأعضاء تنزع من شخص كهذا وهو ما يزال حيا بواسطة الآلة، ولا توقف الآلة أو الجهاز إلا بعد نزع الأعضاء المطلوبة.
6- هل يجوز زرع أعضاء من غير المسلمين للمسلمين؟ وهل يجوز نقل الدم من غير المسلمين للمسلمين؟
هذا نموذج لموضوع واحد من الموضوعات الكثيرة التي يثيرها الطب الحديث، وتحتاج إلى اجتهاد جديد من فقهاء الإسلام.
ومنذ سنتين عقدت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدولة الكويت الشقيقة ندوة جمعت بين رجال الفقه ورجال الطب حول "الإسلام والإنجاب" كان لي شرف المشاركة فيها، وقد أثيرت فيها مسائل مهمة مثل (بنوك الحليب) والإجهاض بناء على تشوه في الجنين يشخصه الطبيب، والتحكم في جنس الجنين، والرحم الظئر، وغيرها وأصدرت المنظمة الإسلامية بحوث هذه الندوة ومناقشتها في مجلد مطبوع.
وفي هذا الشهر (يناير1985) تعقد ندوة أخرى بين الفقهاء والأطباء حول بداية الحياة البشرية ونهايتها، وهو موضوع يترتب على تحديده كثير من الأحكام. أتكون بداية الحياة منذ التقاء الحيوان المنوي بالبويضة وتلقيحها، أي منذ بدء الحمل وهي الحياة "الخلوية" المعروفة؟ أم لا تبدأ الحياة إلا بما سماه الحديث "النفخ في الروح" وذلك بعد مائة وعشرين يوما؟
ثم يأتي السؤال الآخر: بماذا تنتهي الحياة ، ويتحقق الموت؟ أبموت القلب وتوقفه عن النبض أم بموت جذع الدماغ؟
إن لتحديد هذا وذاك آثارا مهمة تترتب عليها أحكام ذات خطر، ولابد للفقه المعاصر أن يقول رأيه في ضوء الأدلة الشرعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- هذا المقال جزء من بحث تم عرضه على ملتقى الفكر الإسلامي السابع عشر المنعقد
في جمهورية الجزائر الشقيقة في مدينة الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس " قسنطينة "
في شهر شوال سنة 1403هـ، يوليو سنة 1983م وكان موضوع الملتقى هو "الاجتهاد".
المصدر موقع الدكتور القرضاوي حفظه الله
أما بعد:
ففي مفاهيمنا الإسلامية الأصيلة كلمتان مشتقتان من مادة واحدة، لهما أكبر الأثر في الحياة الإسلامية، وفي مسيرة الأمة الإسلامية على امتداد التاريخ.
هاتان الكلمتان هما الاجتهاد والجهاد،
وقد اشتقتا من مادة (ج هـ د) بمعنى بذل الجهد (بضم الجيم) أي الطاقة،
أو تحمل الجهد (بفتح الجيم) أي المشقة.
والكلمة الأولى هدفها معرفة الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسوله والأخرى هدفها حمايته والدفاع عنه.
الأولى ميدانها الفكر والنظر، والأخرى ميدانها العمل والسلوك.
وعند التأمل نجد أن كلا المفهومين يكمل الآخر ويخدمه، فالاجتهاد إنما هو لون من الجهاد العلمي، والجهاد إنما هو نوع من الاجتهاد العملي.
وثمرات الاجتهاد يمكن أن تضيع إذا لم تجد من أهل القوة من يتبنى تنفيذها كما أن مكاسب الجهاد يمكن أن تضيع إذا لم تجد من أهل العلم من يضيء لها الطريق وفي عصورنا الإسلامية الزاهرة مضى هذان الأمران جنبا إلى جنب: الاجتهاد والجهاد، فسعدت الأمة بوفرة المجتهدين من حملة القلم، ووفرة المجاهدين من حملة السيف، الأولون لفهم ما أنزل الله من الكتاب والميزان، والآخرون لحمايته بالحديد ذي البأس الشديد، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب).
وفي بعض العصور وجد الجهاد لكن لم يصحبه الاجتهاد، فجمدت الحياة الإسلامية وتحجرت، على حين كانت المجتمعات غير المسلمة قد بدأت في اليقظة والتفتح والنهوض.
ثم تلت عصور أخرى فقد المسلمون فيها الاجتهاد والجهاد معا، فغزوا في عقر دارهم، وفقدوا سيادتهم واستقلالهم ووحدتهم.
ثم نادى منادي الجهاد لتحرير الأرض، وحصل المسلمون على استقلالهم، ولكنه كان استقلالا ناقصا قاصرا، إذ الاستقلال الحقيقي أن يتحرروا من آثار الاستعمار التشريعي والثقافي والاجتماعي، إلى جوار التحرر من الاستعمار العسكري والسياسي ويعودوا إلى ذاتيتهم الأصيلة، وهذا لا يكون إلا إذا كانت شريعة الإسلام أساس حياتهم كلها: الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، التشريعية والتربوية، الفكرية والعملية.
الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع التي تحمل الهداية الإلهية للبشر وقد خصها الله بالعموم والخلود والشمول، فهي رحمة الله للعالمين، من كل الأجناس، وفي كل البيئات، وكل الأعصار، إلى أن تقوم الساعة، وفي كل مجالات الحياة المتنوعة، لهذا أودع الله فيها من الأصول والأحكام ما يجعلها قادرة على الوفاء بحاجات الإنسانية المتجددة على امتداد الزمان، واتساع المكان، وتطور الإنسان.
وإنما كانت كذلك بما جعل الله فيها من عوامل السعة والمرونة، وما شرع لعلمائها من حق الاجتهاد فيما ليس فيه دليل قطعي من الأحكام، أما ما كان فيه دليل ظني في ثبوته أو دلالته أو فيهما معا، أو ما ليس فيه نص ولا دليل، فهو المجال الرحب للاجتهاد، وبهذا تتسع الشريعة لمواجهة كل مستحدث، وتملك القدرة على توجيه كل تطور إلى ما هو أقوم، ومعالجة كل داء جديد بدواء من صيدلية الإسلام نفسه، لا بالتسول من الغرب أو الشرق.
إن "الاجتهاد" هو الذي يعطي الشريعة خصوبتها وثراءها، ويمكنها من قيادة زمام الحياة إلى ما يحب الله ويرضى، دون تفريط في حدود الله، ولا تضييع لحقوق الإنسان، وذلك إذا كان اجتهادا صحيحا مستوفيا لشروطه صادرا من أهله في محله.
مجالان جديدان للاجتهاد
وأذكر هنا مجالين من المجالات التي حدث فيها تغير ضخم، قلب ما كان مألوفا ومقررا من قبل ظهرا على عقب، وأصبحنا في أشد الحاجة إلى الاجتهاد.
المجال الأول: المجال الاقتصادي والمالي.
فلاشك أن عصرنا هذا قد حفل بأشكال وأعمال ومؤسسات جديدة في ميدان الاقتصاد والمال لم يكن أسلافنا ـ بل لأقرب العصور إلينا ـ عهد بها وذلك كالشركات الحديثة بصورها المتعددة كشركات المساهمة والتوصية وغيرها، وفي مجالاتها المختلفة كالتأمين بأنواعه المتعددة: تأمين على الحياة وتأمين على الممتلكات..الخ.
والبنوك بأنواعها المختلفة من عقاري وصناعي وزراعي وتجاري واستثماري..الخ وأعمالها الكثيرة: من حساب جار، وودائع وقروض وتحويل وصرف، وفتح اعتمادات وإصدار خطابات ضمان، و (خصم كمبيالات) وغير ذلك مما قد يحل أو يحرم من معاملات البنوك.
وإن كثير من هذه المعاملات جديد مائة في المائة، وبعضها شبيه بمعاملات قديمة، أو قريب منها، وبعضها مركب من قديم وجديد.
ترى ما الحكم في هذه المعاملات والمؤسسات؟ ربما يسارع بعض أهل العلم إلى أسهل الطرق وهو الرفض والتحريم والتشديد، وفي هذا ما فيه من تعسير على المسلمين وتنفير من الدين. وقد قال الإمام سفيان الثوري بحق: إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد!
وقد يحاول آخرون فتح الباب على مصراعيه لكل جديد، وكل ما هو واقع مباح بدعوى المصلحة حينا، وبدعوى الضرورة حينا، وبتخريجات واهية متكلفة حينا آخر.
وفئة ثالثة تحرص على أن تبحث لكل معاملة جديدة عن نظير قديم تضمنته الكتب والمصنفات، لتخرج على وقفه، وتكيف على أساسه، وإلا فهي معاملة مرفوضة.
وأولى من هذا كله أن تخضع هذه الأعمال والمؤسسات الجديدة للبحث الجاد والدراسة المتأنية، وأن يستفرغ أهل الفقه وسعهم لاستنباط الحكم اللائق بها في ضوء الأدلة الشرعية، سواء كان الحكم بالإباحة أو التحريم، فهذا مجال الاجتهاد، وهنا عمل المجتهد حقا.
ومثل ذلك (النقود الورقية) التي أصبحت عماد التعامل في هذا العصر، ما حكمها؟ ألها حكم النقود المعدنية، التي جاءت بها النصوص الشرعية من الذهب والفضة، في كل شيء: في وجوب الزكاة وحرمة الربا، وقضاء الديون، وغيرها؟
أم النقود الشرعية هي الذهب والفضة فقط، وما عدا ذلك فليس بنقد كما يذهب إليه بعض ظاهرية عصرنا، وبهذا لا يوجبون فيها الزكاة، ولا يجري فيها الربا؟؟
أم لها حكم الذهب والفضة في وجوب الزكاة فقط؟ أم فيه وفي الربا؟ وليس في قضاء الديون؟
وما الحكم في العملات التي تدهورت قيمتها أو تتدهور باستمرار إلى حد مذهل؟ وما حكم من كان عليه دين قديم من هذه العملات ويريد أن يوفيه اليوم بعد هبوط القدرة الشرائية هبوطا غير عادي؟ كما في الليرة التركية مثلا؟
وما الحكم في الذهب اليوم؟ ألا زال نقدا وعملة ومعيارا وثمنا للأشياء كما كان في الماضي؟ يقوم به غيره، ولا يقوم هو بغيره؟ وهل له قوة الإبراء كما كان؟ أم أصبح هو سلعة تباع وتشترى، وترتفع وتنخفض، وتقوم بغيرها من الأشياء؟
وهل الذهب المصنوع المشغول كذهب السبائك ونحوها في الحكم؟ أم لكل منها حكمه الخاص؟ الخ من هذه الأسئلة المتشعبة.
وكم عقدت في عصرنا حلقات وندوات، وأقيمت مؤتمرات، ونظمت أسابيع، لدراسة بعض الموضوعات المالية والاقتصادية، مثل: التأمين أو البنوك أو الزكاة في الأموال المعاصرة؟ واتفقت في بعض الأمور، واختلفت في بعضها الآخر، وحسمت القول في بعض القضايا، وظلت قضايا كثيرة مرجأة للبحث، تنتظر رأي المجتهد فردا كان أو جماعة.
موضوع كالتأمين نوقش في أسبوع الفقه الإسلامي بدمشق، وفي مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وفي ندوة التشريع الإسلامي في ليبيا، وفي المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة.. وفي غيرها من المؤتمرات والندوات.
وألف فيه عدد من الأساتذة الأفاضل، أذكر منهم: الأستاذ مصطفى الزرقا، والشيخ على الخفيف رحمه الله، والشيخ عبدالله بن زيد المحمود، والدكتور حسين حامد حسان، والدكتور محمد الدسوقي..وغيرهم.
وكتبت فيه عدا ذلك مقالات وبحوث متنوعة، ولم ينته الرأي فيه بعد.
فهذا هو المجال الأول للاجتهاد في عصرنا: مجال المعاملات المالية المعاصرة.
المجال الثاني: مجال الطب الحديث
فمما لا ريب فيه أن العلم الحديث بما قدمه من اكتشافات هائلة وتكنولوجيا متقدمة، وما وضع في يد الإنسان من إمكانات تشبه الخوارق في العصور الماضية وخصوصا في المجال الطبي، قد أثار مشكلات كثيرة تبحث عن حل شرعي وتساؤلات شتى تتطلب الجواب من الفقه الإسلامي وتقتضي من المجتهد المعاصر أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه في استنباط الحكم المناسب لها.
وعندي من هذا النوع أسئلة كثيرة منها مجموعة صيغت من قبل منظمة الطب الإسلامي في جنوب إفريقيا، وقد أرسلها إلي أيضا قسم الطب الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وتشمل حوالي سبعة عشر موضوعا.
وأنا أذكر منها هنا موضوعا واحدا مهما، لنرى مقدار حاجتنا إلى الاجتهاد، لنجيب عن هذه الأسئلة وأمثالها وما أكثرها، وهو ما يتعلق بزرع الأعضاء.
زرع الأعضاء وحاجتنا إلى الاجتهاد فيه
تعتبر زراعة الأعضاء من الحقول التي يتطور فيها الطب سريعا، وهذا يتضمن زراعة العضو كله أو أجزاء منه، أو زراعة أنسجة من الحيوانات، أو مخلوقات أخرى ومن ثم زرعها في جسم المريض.
وفيما يتعلق بالحيوانات، فقد انتزعت صمامات القلب من الخنازير والعجول، والجلد والكبد من الخنازير كذلك.
أما فيما يتعلق بالبشر، فإن الأحياء منهم يمكن أن يعطوا بعض الأعضاء مثل كلية واحدة، أو الجلد أو الدم دون أن يؤذوا أنفسهم ويمكن نزع بعض الأعضاء من الأموات مثل القرنية، الجلد، القلب، الكليتين، العظام، صمامات القلب والقرنيات.
ويمكن أن يكون الغرض من زرع الأعضاء هو إنقاذ حياة، أو تحسين نوعية الحياة، مثل شفاء أنسجة العظام الصلبة، أو تمكين الإنسان من النظر، أو أن يتمكن من الأكل والشرب بشكل أفضل بواسطة زرع الكلية.
وهنا تثور الأسئلة التالية
1- هل يجوز زرع أعضاء الحيوان أو أجزاء منها في الإنسان لإنقاذ الحياة أو تحسين نوعيتها، حتى ولو كان الحيوان خنزيرا، أو جلد خنزير أو كبد خنزير، أو صمامات قلب خنزير؟
2- هل يجوز للمسلم الموافقة على نزع أعضاء من جسمه وهو حي لاستعمالها في الزراعة لمصلحة طفلة أو أحد أبويه أو إخوته؟
3- هل يجوز للمسلم أن يوافق على نزع أعضاء من جسمه بعد موته لتستعمل في الزراعة ليستفيد منها أي إنسان؟
4- هل يجوز للمسلمين أن يتبرعوا بأجسامهم بعد الموت لاستعمالها في التشريح لتعليم الآخرين وبهذا يفيدون الإنسانية؟
5- متى يجوز الإعلان عن وفاة الإنسان؟ فهذا سؤال مهم في الطب لأنه في حالة الأعضاء مثل القلب والكلية فإنه يمكن أن يكونا نافعين في حالة استقبالهما كمية كافية من الدم (ارتواء) ولهذا السبب فإن مفهوم (موت الدماغ) قد تطور ويستطيع الطبيب بواسطته أن يحكم فيما إذا كان المريض قد أصيب بجرح حاد في بعض الأجزاء الحيوية من دماغه، أي إذا توقفت الآلة التي تحافظ على حياته، فإن المريض سيموت حتما، والأعضاء تنزع من شخص كهذا وهو ما يزال حيا بواسطة الآلة، ولا توقف الآلة أو الجهاز إلا بعد نزع الأعضاء المطلوبة.
6- هل يجوز زرع أعضاء من غير المسلمين للمسلمين؟ وهل يجوز نقل الدم من غير المسلمين للمسلمين؟
هذا نموذج لموضوع واحد من الموضوعات الكثيرة التي يثيرها الطب الحديث، وتحتاج إلى اجتهاد جديد من فقهاء الإسلام.
ومنذ سنتين عقدت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدولة الكويت الشقيقة ندوة جمعت بين رجال الفقه ورجال الطب حول "الإسلام والإنجاب" كان لي شرف المشاركة فيها، وقد أثيرت فيها مسائل مهمة مثل (بنوك الحليب) والإجهاض بناء على تشوه في الجنين يشخصه الطبيب، والتحكم في جنس الجنين، والرحم الظئر، وغيرها وأصدرت المنظمة الإسلامية بحوث هذه الندوة ومناقشتها في مجلد مطبوع.
وفي هذا الشهر (يناير1985) تعقد ندوة أخرى بين الفقهاء والأطباء حول بداية الحياة البشرية ونهايتها، وهو موضوع يترتب على تحديده كثير من الأحكام. أتكون بداية الحياة منذ التقاء الحيوان المنوي بالبويضة وتلقيحها، أي منذ بدء الحمل وهي الحياة "الخلوية" المعروفة؟ أم لا تبدأ الحياة إلا بما سماه الحديث "النفخ في الروح" وذلك بعد مائة وعشرين يوما؟
ثم يأتي السؤال الآخر: بماذا تنتهي الحياة ، ويتحقق الموت؟ أبموت القلب وتوقفه عن النبض أم بموت جذع الدماغ؟
إن لتحديد هذا وذاك آثارا مهمة تترتب عليها أحكام ذات خطر، ولابد للفقه المعاصر أن يقول رأيه في ضوء الأدلة الشرعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- هذا المقال جزء من بحث تم عرضه على ملتقى الفكر الإسلامي السابع عشر المنعقد
في جمهورية الجزائر الشقيقة في مدينة الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس " قسنطينة "
في شهر شوال سنة 1403هـ، يوليو سنة 1983م وكان موضوع الملتقى هو "الاجتهاد".
المصدر موقع الدكتور القرضاوي حفظه الله